الغراب السّارق والثعلب الماكر
جاع ثعلبٌ يومًا، فخرج من مغارته القائمة بين صخور الغابة وأخذ يطوف في الحقول والأدغال، سعيًا وراء طريدةٍ يملأ بها بطنه الخاوي، فساقه القدر إلى مرجٍ ضيّقٍ كثير العشب، ملاصق لساقية ماء، ينبت على حافّتيها أشجار البان الباسقة، فجلس في ظلّ دوحة بين الحشائش الطّريئة النّاضرة، ليستريح من رحلته الشَّاقّة.
وكان قريبًا من ذلك المكان الخصب، بستانٌ فيه بيتٌ وزرائب تكثر فيها الماعز والبقر والطّيور الدّاجنة، فأمّل أبو الحُصَيْنِ أن تشْرُدَ من المزرب دجاجةٌ حمقاء أو ديكٌ سمينٌ فيفترسه؛ فصار يترصَّد ويترقّب فرصة سعيدةً دون أن يُبديَ حراكًا يُثير به شُبهة الكلاب.
واتّفق أن قصد تلك الأرض غرابٌ جائعٌ أيضًا، فحطّ على بانةٍ وأخذ يحدّق بعينيه الحادّتين، فأبصر امرأةً في ساحة البيت، تُعنى بقوالب الجبن وتُجَفِّفها في الشّمس وتُعالجها لكي لا تدبّ فيها عفونةٌ أو فسادٌ، فقَلْقَلَ شَفْرَتَيْ منقاره ومضغ ريقه فرحًا وتريّث قليلًا حتّى ذهبت صاحبة الجبن إلى بعض شؤونها الأخرى، فسقط على الأرض وتناول قالبًا بمنقاره مستعينًا بمخالبه وطار وحطّ على بانةٍ شامخةٍ ينام تحتها الثّعلب.
رأته الإمرأة يذهب بالجبنة، فاضطربت وغضبت ورشقته بالحجارة، ولكنّها لم تُصبه وسألته أن يُعيد إليها الجبنة الصّفراء الّتي تعبت في تحضيرها وتقديدها لتكون لها من جملة مُؤونة الشتاء، فهزىء منها قائلًا:
- عودي إلى عملك أيّتها العجوز السخيفة واحرصي على جُبنك من سائر الغربان. إنّني سعيدٌ بما حصَّلت وكادت قواي تخور من الجوع؛ أمّا الآن فسأنقر هذه الجبنة الصّفراء الشّهيّة أمام ناظريك، وأنت تستطيعين أن تأكلي خبزك قفارًا، إذا شئت، فاتركيني وشأني.
فثار ثائرها وقالت له:
- اخرس أيّها الحاتم السّارق، يا غراب الشّؤم، يا أشأم من بومةٍ، انصرف من هذه البقعة حتّى لا أرى وجهك الأسود المقيت. لو كان لديّ قوسٌ ونشّاب لرميتك وأرديتك ومزّقتك إرْبًا إرْبًا.
فهزّ الحاتم الخبيث رأسه وتناول الجُبنة بمخالبه وصار ينقرها نقرًا سريعًا والمرأة تنظر إليه وهي تكاد تتميّز من الغيظ. وأخيرًا يئِست منه فانصرفت. وأفلَتَ بعض فتات الجبن من منقار الطّير الأسود، فسقط وانتثر أمام الثّعلب النّائم، فالتقفه بِفِيْهِ الحادّ والتفت إلى أعلى فوجد الغراب جاثمًا على غصنٍ من غصون البانة فحيّاه أحسن تحيّة وقال له:
- يا عزيزي الغراب! كم أنا سعيدٌ برؤيتك الآن، إنّني لم أشاهدك منذ زمن طويلٍ؛ ما أسعدكم معشر الغربان، لأنّ الفضاء العالي الرّحيب يحميكم، وما أجمل أصواتكم! لقد كنت فيما مضى من العمر أسمع صوت أبيك فأطرب له أشدّ الطّرب.
فرح الحاتم الأسود بمديح أبي الحصين، واهتزّ جسمه سرورًا وانتفش ريشه وأمسك بقالب الجُبن ونعق لإطْراب مادحه الثّعلب. ومن شدّة تأثّره قفز على الغصن فأفلتت الجبنة من بين براثنه، وهبطت أمام فم الثّعلب فقال له الحيوان المحتال:
- يا صديقي، إنّ رائحةً خبيثةً تنبعث ممّا رميت لي. وكاد يُصيبني إغماءٌ منها، ومن يدري، فقد أموت بسببها. ولست أستطيع الابتعاد عنها لأنّ رجلي مصابةٌ بكسرٍ ومُثخنةٌ بالجراح والأطبّاء نصحوني بالبقاء هنا في مكاني للتّداوي، وقد تنقضي عليّ أيّامٌ قبل أن أفارق هذا المرقَد؛ فانْزِل، إن شِئْتَ، وابْعِدْها عنّي باللّه عليك يا أخي ولا تُسَفّه طلبي، فصدّق الغراب قول الثّعلب ونزل، ولكنّه ظلّ بعيدًا بضع خطواتٍ عنه، حذرًا منه.
فما كان من الحيوان المُراوغ الغادر إلّا أن وثب عليه ليتناوله بيديه، غير أنّه أفلت منه تاركًا له بعض الرّيش من قوادم جناحيه وبضع ريشاتٍ من ذنبه، ورفرف وطار ووقع على غصون الشّجرة الذّاهبة في السّماء حزينًا وقال:
- لقد انخدَعْتُ هذه المرّة وغرّرتُ بنفسي مع شدّة حذري، ولن أنخدع بعد اليوم أيّها الغادر الماكر، ولن أقع فريسةً لأنيابك وبراثِنك. كلّ الجبنة الّتي حَرَمْت منها الإمرأة المسكينة، واهنأ بها ولكنّك لن تهنأ بأكلي!
واعتذر أبو الحُصَين من صديقه وحاول إقناعه بالعودة إليه ولكنّه عبثًا فعل. وفرّ الغراب تاركًا البانة آسفًا على غنيمته المضاعة. أمّا أبو الحصين، فأسف على ضياع الغراب وإفلاته من بين يديه، وتلذّذ بأكل الجبنة الشّهيّة الّتي شَفَتْهُ من جراحه وجبرت عظمه.
ولمّا انتهى من أكلها، ولَحَسَ بلسانه الورديّ أطراف شفتيه، قام إلى الماء وولغ منه حتّى ارتوى وقفَل راجعًا إلى مغارته.
يوسف س. نويهض
مترجمة – بتصرّف -